الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات
آخر تحديث GMT 07:17:55
المغرب اليوم -

العالم يتخلّى عن روحه في لحظات باريسيّة

الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات

المغرب اليوم -

المغرب اليوم - الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات

عيسى مخلوف
بقلم : عيسى مخلوف

رسالة إلى عبّاس بيضون

دعني أتذكّر، الآن، لحظتين اثنتين من لحظاتنا الباريسيّة: اللحظة الأولى حديثة العهد. كانت آخر مرّة جئتَ فيها إلى هنا وذهبنا لحضور المعرض المخصّص لأوسكار وايلد في متحف "القصر الصغير" حيث طالعتنا المخطوطات والكتب والصُّوَر الفوتوغرافية والأعمال الفنّية ومن بينها لوحة زيتيّة كبيرة تظهر فيها الممثلة الإنكليزية ليلّي لانغتري، وقد أنجزها، في العام ١٨٧٨، الفنان إدوارد بوينتر. عُرضَت، الى يمين اللوحة، كلمات أوسكار وايلد المهداة إليها.

لستُ أدري فيما كنتَ تفكّر وأنتَ تراقب اللوحة. أمّا أنا فتخيّلتُ نظرات تلك المرأة حين كانت تتكلّم أو تحزن أو تبتسم، وحين تلتفت إلى المرآة لترى الأيّام كيف تمرّ مسرعةً بين تقاسيم وجهها، وخصوصًا بين العينَين الملتمعتَين المندهشتَين.

عندما هممتُ بالانتقال إلى لوحة أخرى، بقيتَ أنتَ مسمَّرًا في مكانك، لا تشيح نظرك عن "مسز" لانغتري ولا تشبع من رؤيتها. فاقتربتُ منكَ ووجدتكَ تتمتم هامسًا: "ما أجملها". وتساءلتُ أمامكَ، يومها، السؤال الذي لا جدوى منه: كيف لهذا الجمال أن يكون تحت التراب؟ عندئذ، سمعتك تقول، من دون أن تنظر إليّ، بل وأنتَ تحدّق في الأرض كأنّك تبحث عن شيء أضَعتَه: "هذا ما أفكّر فيه كلّ يوم".

ماذا كنتَ تقصد بالتحديد؟ وهل من حاجة إلى السؤال عن موضوع تعجز اللغات عن صَوغه. سمِّه، إذا شئت، جرح الولادة السّرّيّ، الجرح الذي لا يندمل، أو اختَر له أيّ مجاز آخر. إنّه سرّنا جميعًا. ومع ذلك، يحاول كلّ منّا أن يخفيه عن الأعين، كما لو أنّه سرّه وحده. إنّه الموت، الشيء الأكيد الوحيد، لدرجة أظنّ معها أنّ الحياةَ نفسها أحد فروعه، وأحد أشكاله وتنويعاته. نحن هنا، الآن، كمجموعة من الغيوم. فجأةً نوجد، وفجأةً نختفي، كأنّنا لم نكن، فيبدو وجودنا كلّه ضَربًا من السِّحر.

خرجنا من المتحف في اتّجاه المقهى المجاور، حيث نلتقي في العادة، وأكملنا حديثنا. أخبرتني عن صمت بسّام حجّار وعن حالة الأرق التي لازمته في الأشهر الأخيرة قبل وفاته. وأخبرتكَ عن لقائي الأخير به في مدينة "لوديف".

كلّما نلتقي، يكون بسّام حاضرًا بيننا.

اللحظة الثانية التي أتذكّرها كانت منذ سنوات في أمسية شعريّة جمعَتنا في "المركز الثقافي المصري" مع أحمد عبد المعطي حجازي وحسن طلب. ذلك اليوم، نظرتَ إلى الجموع نظرتك المعهودة حين تبدأ بالكلام كأنك تقرأه على لوح أسود. تتكلّم وتستطرد. تتدافع الكلمات أمامك كأمواج متلاحقة، تذوب الواحدة منها في الأخرى. كان نظركَ يذهب أحيانًا أبعد من الحاضرين، نحو حديقة "اللوكسمبور" الماثلة وراء مربّعات الزجاج. وكنتَ كأنكَ تروي للشجر والبشر على السواء ما حلَّ بالشعر. الشعر الذي يخرج الآن من مخبئه، لا يعرف أحدًا ولا أحد يعرفه. وسرعان ما يرتفع صوتك، وأنتَ ترثي هذا الكائن الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين سائر الكائنات. كنتَ ترثيه بلا حسرة ولا نحيب، وترى العالم حوله كيف يتحلّل ويتخلّى عن روحه.

كنتَ تودّع الشعر الذي يناديه سوفوكليس من وراء الأزمنة البعيدة قائلًا: "تكلَّم يا طفل الأمل المُذَهَّب، يا الصَّوت الأبديّ".

وكنتُ أخالك، يا صديقي، تَنعى العالم فيما تَنعى الشعر. العالم الذي يمسكه بقرنَيه أباطرة السلطة والعنف والمال. العالم المُسرع إلى حتفه كأنّه ذاهب لمُلاقاة قدره المحتوم.

 وقد يهمك أيضا :  

وفاة المترجم الفلسطينى صالح علمانى عن عمر 70 عامًا

وفاة المُترجم الفلسطيني السوري صالح علماني عن عمر ناهز السبعين عامًا

yeslibya
yeslibya

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات



تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

مذيعة "سي إن إن برازيل" تتعرض لسطو مسلح على الهواء
المغرب اليوم - مذيعة

GMT 01:26 2017 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

الرئيس ترامب يصف كيم جونغ أون بـ"رجل الصواريخ"

GMT 00:59 2016 الثلاثاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

كاظم الساهر يشارك جمهوره كلمات أغنية "تناقضات" عبر "فيس بوك"

GMT 06:56 2017 الثلاثاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

فوز فتاة من بيلاروس بلقب ملكة جمال العالم على كرسي متحرك

GMT 10:44 2019 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

وفاة رئيس أركان الجيش الجزائري قايد صالح وتعيين بديل عنه

GMT 04:36 2019 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

مشادة لفظية بين طاليس وفدوى الطالبي على "التواصل الاجتماعي"

GMT 14:16 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

تييري هنري يسعى إلى ضم سيسك فابريغاس إلى موناكو

GMT 11:59 2018 الإثنين ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف الخمايسي يهدي "جو العظيم" إلى أحمد خالد توفيق

GMT 06:21 2018 الجمعة ,05 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي على أبرز وأجمل عطور لاستقبال فصل الشتاء

GMT 11:52 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

فولكس فاجن تتعاون مع "مايكروسوفت" للعمل على تقنيات رقمية

GMT 05:33 2018 الثلاثاء ,21 آب / أغسطس

العثور على "خنفساء - ملقحة" عمرها 99 مليون عام

GMT 10:05 2018 الأحد ,05 آب / أغسطس

10 نصائح لحماية محرك سيارتك وزيادة عمره

GMT 04:49 2018 الجمعة ,13 تموز / يوليو

أحزمة فساتين الزفاف موضة دارجة لصيف 2018

GMT 19:47 2018 الثلاثاء ,26 حزيران / يونيو

اهتمامات الصحف الباكستانية الصادرة الاثنين
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya