درس في نبل رسالة الصحافة

درس في نبل رسالة الصحافة

المغرب اليوم -

درس في نبل رسالة الصحافة

بقلم - توفيق بو عشرين

في قاعة مغلقة جمعت مالكة صحيفة «الواشنطن بوست»، كاثرين غراهام، ورئيس التحرير الأسطوري للجريدة العريقة، بن برادلي، تسأل صاحبة الجريدة رئيس التحرير: “ما هي عواقب نشر أوراق البانتغون التي تفضح أسرارا خطيرة عن حرب الفيتنام؟”، فيرد بن برادلي بصراحة ووضوح: “السجن والإفلاس يا سيدتي. كل طاقم المحامين التابعين للجريدة ينصحون بعدم نشر هذه الوثائق التي تكشف 30 سنة من الأكاذيب الحكومية على الشعب، خاصة بعد صدور قرار استعجالي من المحكمة يوقف النشر الذي بدأته جريدة ‘‘نيويورك تايمز’’ حول 7000 وثيقة تكشف الأخطاء الكارثية لحكومات متعاقبة في حرب فيتنام التي قتل فيها الآلاف من الأمريكيين”.

هنا تقف الناشرة غراهام شامخة وتقول بلا تردد: «ما فائدة جريدة إذا لم تنشر ما يهم الأمريكيين؟ ولماذا تصلح الصحافة إذا خافت سلطة السياسيين في البيت الأبيض وتخلت عن دورها؟ انشر الأوراق يا بن برادلي على مسؤوليتي، وغدا إذا أقفل نيكسون هذه الجريدة، أو ذهبنا إلى السجن، فلن يلومنا القارئ على هذا، لكن الجمهور سيلومنا غدا إذا عرف أنه كانت تحت أيدينا معلومات تهم دماء أبنائه وأموال ضرائبه ولم ننشرها».


 
الحوار أعلاه حقيقي، وإن كان في قالب درامي من “أوراق البانتغون”، وهو الفيلم الجديد للمخرج الأمريكي العبقري Steven Spielberg، وبطولة ميريل ستريب التي جسدت دور كاثرين غراهام، مالكة جريدة «الواشنطن بوست»، وTom Hanks الذي مثل دور رئيس التحرير بن برادلي، الذي دافع عن نشر أخطر تقرير عن حرب فيتنام الذي سربه أخطر رجل في أمريكا «دانييل إلسبيرغ»، على حد وصف وزير خارجية أمريكا آنذاك، هنري كسنجر.

الفيلم، الذي يعرض في صالات السينما منذ أسبوع، يحكي قصة حقيقية عن الفترة الذهبية التي عاشتها الصحافة الأمريكية، حيث وضعت “نيويورك تايمز” يدها، سنة 1971، على حوالي 7000 وثيقة من تقرير شامل أعده البانتغون بطلب من وزير الدفاع، روبرت ماكنمارا، ولما أوقف القضاء النشر بطلب من الحكومة، إلى غاية النظر في جوهر القضية، سلمت “نيويورك تايمز” الأوراق لـ«الواشنطن بوست» التي وجدت نفسها أمام قرار خطير يعرضها للسجن والإفلاس، وربما إغلاق الجريدة، لكنها تحملت وقررت النشر بتشجيع من رئيس التحرير.
ما هي خطورة هذه الوثائق التي ختمت كلها بطابع سري جدا؟ خطورتها تكمن في أنها تكشف أن إدارة الرئيس ليندن جونسن استعملت الحرب في فيتنام وسيلة للدعاية في الانتخابات، معرضة أرواح الأمريكيين للخطر لأسباب تخص الرئيس ولا تخص الأمن القومي الأمريكي، كما أن أوراق البانتغون تكشف تجاوز الرئيس صلاحيات الكونغرس في تحديد أهداف الحرب ومساحتها ووسائلها، كما تكشف الأوراق تجاوز الرئيس صلاحياته، واعتداءه على صلاحيات وزير الدفاع والقادة الميدانيين في إدارة العمليات الحربية. وقبل هذا وبعده، تفضح وثائق البانتغون أن الحرب كلها كانت خطأ، وأن كلفتها كانت كبيرة على الأمريكيين والفيتناميين، وأن الحرب لم تكن قدرا محتوما.

خروج فيلم Pentagone Papers في هذا التوقيت رسالة إلى البيت الأبيض، حيث يوجد رئيس في البيت الأبيض يكره الصحافة ويحاربها عبر تغريدات طائشة في «تويتر»، لذلك، يقوم المخرج سبيلبرغ بجولة في أمريكا وخارجها ليروج الفيلم الجديد، الذي قال إنه من نوع «أفلام الصحافة التي تتخذ من جنس التحقيق الصحافي منطلقا لرواية قصة فنية مليئة بالدلالات المهمة».
قصة أوراق البانتغون درس في «رسالة الصحافة»، ودورها في الحياة العامة.. درس للناشرين الذين يخافون على مقاولاتهم من نشر الأخبار الحساسة والتحقيقات الحارقة، ولرؤساء التحرير الذين يخافون الغرامة أو السجن، ولعموم الصحافيين الذين يفضلون أن يمسحوا أحذية السياسيين والأثرياء عوض أن ينزعوها من أرجلهم، ليظهروا للجمهور نوع الجوارب التي يلبسونها.
هذا الدرس يقول إن العمل الصحافي يحتاج إلى استقلالية تحريرية، وجرأة أدبية، ومخاطرة مهنية، وفهم عميق لسلطة الكلمات في تطور أنظمة الحكم والحكامة، وفي فتح أعين الرأي العام على ما يجري حوله.

في إحدى اللقطات المهمة في الفيلم، يسأل صحافي شاب في قاعة تحرير صحيفة «الواشنطن بوست» رئيسه بن برادلي (طوم هانكس): “هل ما نقوم به من نشر أوراق محظور نشرها بقرار قضائي عمل قانوني؟”، فيرد عليه رئيس التحرير: “لا، إنه غير قانوني لكنه أخلاقي، وهل تتصور يا ابني أن عملنا في الصحافة كله قانوني؟».

تطورات الأحداث أنصفت «الواشنطن بوست» التي كانت محلية، وأصبحت بعد هذه المعركة القانونية والسياسية صحيفة وطنية ثم عالمية، وجاء قرار المحكمة الفدرالية في صالح حق النشر، إذ قال كبار القضاة، في حكمهم الذي صار مرجعا للصحافة وللقضاء: «إن الصحافة غير معنية بخاتم السرية الذي وضعه البانتغون فوق تقرير ماكنمارا، لأنه تقرير يهم دافعي الضرائب، ويهم كل عائلة قتل ابنها في حرب فيتنام، فمن حق هؤلاء معرفة ما جرى في هذه الحرب، ثم إن التحجج بسرية الوثائق فيه حد من حرية النشر المكفولة بالدستور».

لا أريد أن أقارن ما يجري هناك على الطرف الآخر من الأطلسي بما يجري هنا، حيث يحرض مصطفى الرميد، وزير حقوق الإنسان -يا حسرة- زملاءه الوزراء على جر الصحافيين إلى القضاء، وعدم التساهل معهم في ما ينشرونه، وهو يعرف أن الخطأ في النشر أهون من المشاركة في مؤامرة الصمت، وتخويف كل ذي رأي أو ضمير من الاقتراب من المعبد… لا أريد أن أكتب عن أوراق محنة الصحافة في بلد يضيق صدره، يوما بعد آخر، بريشة القلم ومداد الكلمات، فيستعمل سلاح القانون والقضاء والإشهار والتشهير لإخراس الأصوات المزعجة بطرق ناعمة وخشنة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

درس في نبل رسالة الصحافة درس في نبل رسالة الصحافة



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

مذيعة "سي إن إن برازيل" تتعرض لسطو مسلح على الهواء
المغرب اليوم - مذيعة

GMT 09:01 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

إيلي صعب يُعلن عن فساتين الزفاف لخريف 2018

GMT 02:25 2017 الأحد ,22 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشاف نوع جديد من العناكب الذئبية جنوب إيران

GMT 14:56 2015 السبت ,17 كانون الثاني / يناير

"الزراعة" المصرية تستلم 82 ألف رأس بقر من منحة الإمارات

GMT 23:17 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

انطلاق محاكمة "مول الكاسكيطة" بتهمة إهانة العاهل المغربي

GMT 22:19 2019 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

امرأة تعود للحياة بعد أسبوع واحد من دفنها

GMT 21:46 2018 الثلاثاء ,04 أيلول / سبتمبر

عمرو دياب يضرب حارسه الخاص في حفلة له والحارس يرد

GMT 06:30 2018 الأربعاء ,25 تموز / يوليو

قتل مئات التماسيح في إندونيسيا ثأرا لمزارع
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya