“ليالي العصفورية”

“ليالي العصفورية”

المغرب اليوم -

“ليالي العصفورية”

بقلم - جمال بودومة

إذا مررت من معرض الكتاب في الدار البيضاء، توقف قليلا عند رواق “دار الآداب”، ولا تتردد في شراء آخر روايات واسيني الأعرج: “مي، ليالي إيزيس كوبيا- ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية”… لن تندم، رغم أن الندم موجود بوفرة بين ثنايا الكتاب. مي زيادة، وردة الأدب العربي في بداية القرن العشرين، تذبل بين صفحات الرواية وتأكل أظافرها حسرة، لأنها تركت الأحاسيس تقودها وسط الغابة التي تسمى “الحياة”، بدل تحكيم العقل، والانتباه إلى الذئاب التي تتربص بامرأة متحررة في ليل الشرق البهيم. استيقظت ذات صباح ووجدتهم جردوها من كل شيء، حتى من عقلها، وأدخلوها إلى مستشفى المجانين، لأن ذكاءها جَرح كبرياءهم، وأنوثتها خدشت ذكورتهم!
الذئب الأكبر اسمه جوزيف زيادة، ابن عمها الذي أحبته وضحك عليها. استغل ضعفها بعدما فقدت والديها، واحدا تلو الآخر، وجعلها توقع وثيقة تنازل عن كل ما تملك، ثم أرسلها إلى “العصفورية”، النسخة اللبنانية من “برشيد”. أما الكتاب والمثقفون والمفكرون، الذين ظلوا يرتادون صالونها الشهير في القاهرة، فقد تصرفوا معها مثل بنات آوى. نكتشف أن العقاد والرافعي وطه حسين وسلامة موسى… شخصيات مصابة بالانفصام، تسقط عنها الأقنعة. الميدالية الذهبية للعقاد الذي كان يشتهيها ويغار من جبران خليل جبران، الحبيب البعيد الذي ربطته بمي علاقة أفلاطونية، لم تتجاوز حدود المراسلة، وانضاف موته (1931) إلى رحيل والديها (1929 و1932)، كي يدخلها في كآبة حادة، جعلتها فريسة سهلة للاحتيال، وحين تعرضت للغدر وأدخلت مستشفى المجانين، لم يتردد مؤلف “سارة” في نهش لحمها مع الناهشين!
الرواية تقتفي أثر مخطوط حقيقي، حكت فيه الكاتبة التي وقعت باكورة أعمالها باسم “إيزيس كوبيا”، معاناتها في المصحة العقلية، وسمته “ليالي العصفورية”. لم يعثر عليه أحد، ولا يُعرف مصيره. واسيني الأعرج ينجز عملا خطيرا: يكتب المخطوط الضائع، يعيد صياغته كلمة كلمة، جملة جملة، زفرة زفرة، في سرد يقطع الأنفاس. نكاد نصدق ياسين الأبيض، محقق المخطوط، الذي لم يترك بلدة لم يزرها بحثا عن “ليالي العصفورية”، رفقة صديقته روز خليل، الأستاذة في جامعة مونريال. من القاهرة إلى الناصرة، مرورا ببيروت والقرى الصغيرة التي عاشت فيها صاحبة “ابتسامات ودموع”. في النهاية، نكاد نصدق أن إيزيس كوبيا هي من كتبت المخطوط. على امتداد 280 صفحة نتابع وردة الحداثة العربية وهي تذبل، إلى أن تسلم الروح إلى باريها في مستشفى “المعادي” بالقاهرة. ورغم شهرتها وصالوناتها وصداقاتها، لم يمش في جنازتها إلا ثلاثة من الأوفياء، لطفي السيد وخليل مطران وأنطوان الجميل…
نجح واسيني في استعادة محنة مي، في أيامها الأخيرة، مع الجحود وظلم ذوي القربى. جعل منها نسخة عربية من كاميي كلوديل، وربط بين النحاتة والكاتبة من خلال مراسلات مؤثرة بين ضحية رودان في فرنسا وضحية جوزيف في لبنان. في الإنسان وحش واحد، والكثير من الحب والمرارة والخذلان.
جزائري يكتب مأساة مشرقية. واسيني أتقن “الخدعة”، وكدت شخصيا أصدق أن المخطوط حقيقي، لولا أن هناك لفظا مغرقا في المحلية فضح “اللعبة” في الصفحة 159: “كأنهم طلبة تخصص طب، في حالة تربص، إذ بدت لي الكثير من أسئلتهم سخيفة وغبية”. يصعب أن نتخيل كاتبة لبنانية في الثلاثينيات من القرن الماضي تستعمل لفظة “تربص” كمرادف لـ”التدريب” أو “Le stage”… مع ذلك، استطاع صاحب “البيت الأندلسي” أن يشطب الحدود بين الشرق والغرب، ويكتب بلغة سلسلة وعفوية، تزاوج بين المحكية اللبنانية والفصحى والفرنسية أحيانا، وحقق الأهم: جعلنا نفهم لماذا أخطأ العرب موعدهم مع “الحداثة”، ونحن نتابع المصير المأساوي لأيقونة الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين، الكتّاب الذين يتبجحون بالثورة على التقاليد، وتحطيم الموروث، وتحرير المرأة، لا يترددون في التعامل مع مبدعة رقيقة بمنتهى النذالة والخسة والانتهازية. شخصيات مصابة بالانفصام يعريها الروائي على لسان مَي زيادة. إنها “الحداثة النفعية”، بتعبير واسيني، التي يروّجون لها مادامت تنفعهم، وبمجرد ما تصطدم مع مصالحهم يستيقظ فيهم الرجل التقليدي بعباءته وعمامته ورجعيته. الرواية تؤكد، أيضا، أن الصحافة العربية لم تغادر المستنقع إلا نادرا، إذ تنافست جرائد الحقبة في التشهير بالكاتبة ونسج الأساطير حول “جنونها”، دون أن تتجشم عناء التقصي، باستثناء جريدة “المكشوف” التي آمنت بقضية صاحبة “كتاب المساواة” ودافعت عنها حتى النهاية، مثلما وقف معها الكاتب أمين الريحاني بصدق وشهامة، في وقت خذلها معظم المثقفين المصريين، الذين كان لها ارتباط وثيق بهم لأنها عاشت في مصر وحصلت على جنسيتها أيام كانت القاهرة فعلا قاهرة!
عندما تفرغ من قراءة “ليالي إيزيس كوبيا”، اعطها لطفلك أو أخيك الأصغر، لعله يكتشف أخيرا أن مي زيادة ليست مجرد مدرسة أو إعدادية مجاورة، وربما عرف بالمناسبة أن “مَي” تنطق بالفتحة وليس بالشدة والكسرة على الميم: “مَيْ” زيادة وليس “مِّي” زيادة… لأنها لم تكن أما لأحد!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

“ليالي العصفورية” “ليالي العصفورية”



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

مذيعة "سي إن إن برازيل" تتعرض لسطو مسلح على الهواء
المغرب اليوم - مذيعة

GMT 09:48 2017 الأحد ,24 كانون الأول / ديسمبر

ماريوت الرياض يحصد جائزة أفضل فندق على مستوى السعودية

GMT 17:01 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية تضرب الحسيمة ليلا بقوة 3,2 درجة

GMT 10:50 2018 الأحد ,11 آذار/ مارس

محمود المليجي أنطوني كوين العرب

GMT 02:28 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

زين العبادي تتحدث عن فن "الفونغ شوي" وأهميته في المنزل

GMT 12:51 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

ماكياج كايلي جينر لعام 2017 يحدد هل كنتي شقية أم لطيفة

GMT 02:05 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتفالات تعم زمبابوي بعد إعلان استقالة موغابي

GMT 22:47 2016 الجمعة ,18 آذار/ مارس

حلم كأس العالم يعود يا إماراتيون

GMT 09:15 2016 الأحد ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

شابة تجدل شعرها بالمقلوب لتحصل على تسريحة شعر كالسنبلة

GMT 17:07 2017 الجمعة ,06 كانون الثاني / يناير

انخفاض متوقع لأسعار المنازل في كوريا الجنوبية عام 2017

GMT 17:16 2014 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

كلب من نوع "بيتبول" يهاجم باحث مكلف بالإحصاء

GMT 05:50 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

المطرب يوري مرقدي يكشف عن أسباب عودته إلى التمثيل

GMT 15:35 2015 الثلاثاء ,20 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار سيارة بنتلي بينتايجا 2016 في المغرب

GMT 05:33 2017 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

نسخة من جيب رانجلر مقتبسة من سلسلة أفلام Star Wars
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya