مات متسربلاً بالضوء الفدائي

مات متسربلاً بالضوء الفدائي

المغرب اليوم -

مات متسربلاً بالضوء الفدائي

حسن البطل
بقلم: حسن البطل

أبو علي الجعبة، ليس نصاً وليس صورة.. لكنني، إذ التقيه هكذا.. مرات مبعثرة في مساءات حميمة لا تُنسى، أقرأه نصاً ناصعاً في نور النهار الطبيعي الواضح.
أعرفه ـ لا أعرفه؛ يعرفني ـ لا يعرفني، غير أن هذا القادم إلى الغروب من وهج انفجار الخلايا الفدائية الأولى، يذكّرني بصور واقعية ـ مستعادة، بفضل عيون «المرصد هابل»، عن ضوء الشظايا الأولى لخليقة الكون.
الكون الذي تشكل لا يزال يتشكل، والحركة الفدائية التي تشكلت لا تزال تتشكل.. غير أن معظم الفدائيين الأوائل من جيل أبو علي، الذين تشكلوا، مع انفجار الربيع الفدائي، توقفوا عن إعادة التشكل.
أبو علي الجعبة استثناء ما. لم يتوقف عن التشكل. بقي يرى الأفق الغربي واضحاً في ضوء الشروق الفدائي. الرجل الكهل ليس نصاً وليس صورة، لكن أبو علي ـ الجعبة ظل حالة خاصة: عندما وصل الصعود الفدائي إلى ذروة ألقه صعد معه.. وعندما بدأ هذا الصعود امتحان الوضوح السياسي.. انسحب أبو علي من القواعد الفدائية إلى غبار السجال السياسي.
لا أستطيع أن أكتب أبو علي الجعبة لزوجته، ولا لأم ولديه، ولا لإخوانه الكثر، ولا، خاصة، لـ «عموم آل الجعبة في الوطن والخارج»، لكنني أكتبه لنفسي، أو لجيلي، أو لمن تبقى من رفاقه. كان يذوي.. وكان يستحضر وهج الفدائيين الأوائل.
إنه لا ينسى الرفاق الأوائل، ولا هم ينسونه، ولا أنا أنساهم، لأنهم خريجو «بوتقة المرحلة». مرحلة البدايات الفدائية الأولى. بعض من بقي من رفاقه صاروا يؤرخون لتلك البدايات، ولمساراتها المتشعبة. لقد نضجوا. هل أنضج أو أذوي؟ لا أعرف.
هو كان مأخوذاً بالضوء الفدائي الأول، أو بالشباب الذين احترقوا فيه، أو بالفدائيين الطيبين الشجعان الذين ابتعدوا أو أبعدوا إلى الظلال، بل إلى النسيان. هو لا ينساهم. طوبى لمن سقط منهم مثل نيزك متوهج.
في المساءات المبعثرة، قبل أن يبدأ اختلال الخلايا في جسمه، كان يبدو لي ناصعاً، كأنه جزء من ضوء النهار الطبيعي.. لكن، آخر مرة رأيته في ضوء النهار الطبيعي، بدا لي مثل صورة في مرآة يجللها بخار كثيف. دخل مرحلة الغياب.
أطلت هنرييت عليّ في مكتبي. خرجتُ معها. لا طاقة له على فك حزام الأمان في سيارة واقفة. هذه أول مرة وآخر مرة نتعانق فيها.. عناقاً رقيقاً رفيقاً يلائم جسداً نحيلاً، ذاوياً هشاً.
في يده دفتر «نوطات» صغير ومسطر. صفحة صغيرة مقسومة نصفين: النصف لأخيار الفدائيين الأوائل، والنصف الآخر لأشرار قادة الفصائل. كانت هذه «قائمة أبو علي» التي يشتغل عليها، بالعربية، بعد أن اشتغل عليها بالفرنسية.
إنه رفيق أخي، ورفيق رفاقه الأوائل، وأخي في «قائمة الأخيار»، والقائمة تحتاج تاريخ الميلاد باليوم والشهر، وأنا أجهل اليوم والشهر وأتذكر العام، ويوم وشهر وعام سقوطه. فقط في نعي أبو علي ـ الجعبة عرفت الاسم الرباعي الكامل: حسن محمد عاشور الجعبة.
أعطيته ما كتبته في عمود عن «أبو مشهور». قلت: ماذا سيضيف الأخ من معرفة إلى معرفة رفيق القتال الأول؟ لست أدري. ماذا تضيف معرفة عائلة أبو علي الجعبة له لمعرفة رفاقه الأوائل؟ لست أدري.
تحيرني، عميقاً، عقليات وروحانيات وسلوكيات الذين يصلون حافة الهزيمة في صراعهم مع مرض السرطان. في احتضارهم يتألقون في استحضار التجارب الأولى. الرجال الأوائل. الأفكار الأولى. البدايات الأولى. بقي القليل من جيل أبو علي.
نحن بقايا جيل أبو علي الفدائي تأخذنا رؤية الأفق الشرقي في الشروق، والأفق الغربي في الغروب. كيف انمسخت الفكرة النقية في قواعد الفدائيين إلى مؤسسات فاسدة. هو كان مأخوذا برؤية الأفق الغربي في ضوء الشروق، ورؤية عروق الفساد في معادن الرجال. رجال أخيار بررة لأفكار خيرة. ورجال أشرار لأفكار ومؤسسات فاسدة.
أحسّ أبو علي ـ الجعبة أنني لا أوافقه الرأي تماماً على قائمته. لا بأس، فهناك قلة من أحياء ذلك الجيل توافقني الرأي على ما أكتب في المرحلة وعن المرحلة.
رأيته وكان مسكوناً بالسكينة، وكنت في حضرته الأخيرة مسكوناً بتململ الشكوك القديمة. بعد كل هذا العمر وهذه التجربة مات أبو علي نقياً، متسربلاً بالضوء الفدائي الطبيعي في نهار طبيعي. غطّ في حلم أبيض عميق. مات.
لا أعرف لماذا أتذكر ما قاله الشقي الجميل مايا كوفسكي: سآتيكم في الغد الشيوعي البعيد.!
وهل يلاقينا أبو علي ـ الجعبة .. في الغد الفلسطيني البعيد؟.!

 

قد يهمك ايضا
حركة ذات انطلاقات!
مخارج محتملة لانتخابات القدس

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مات متسربلاً بالضوء الفدائي مات متسربلاً بالضوء الفدائي



GMT 15:02 2020 الأحد ,09 شباط / فبراير

أنصار اسرائيل في اميركا يهاجمون المسلمين

GMT 16:11 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

من يفوز بالرئاسة الاميركية هذه المرة

GMT 17:21 2020 الجمعة ,07 شباط / فبراير

ايران وحادث الطائرة الاوكرانية

GMT 14:46 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

من دونالد ترامب الى اسرائيل

GMT 17:46 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخبار مهمة للقارئ العربي - ٢

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

مذيعة "سي إن إن برازيل" تتعرض لسطو مسلح على الهواء
المغرب اليوم - مذيعة

GMT 05:17 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

نبات "الكافا" أفضل تكملة لتحسين الحالة النفسية

GMT 19:13 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

جون سينا يرتدي ملابس نيكي بيلا ويقلدها بشكل غريب للغاية

GMT 00:44 2017 الخميس ,27 إبريل / نيسان

منة شلبي تتحدث عن دورها في مسلسل "واحة الغروب"

GMT 17:20 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

"الكاف" يكشف موقفه من حركة عماد متعب المثيرة للجدل

GMT 02:37 2015 الأحد ,25 تشرين الأول / أكتوبر

الأحمر لمسة جديدة تقتحم موضة ملابس الرجال لموسم شتاء 2016

GMT 06:52 2017 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

أسعار العملات العربية والأجنبية بالدينار الجزائري الأربعاء

GMT 10:32 2015 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

عين الجمل وصفة سحرية للذكاء والجنس والحمية والسرطان

GMT 16:30 2016 الثلاثاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

رئيس منظمة الزوايا يُهوِّن من خطر الشيعة في الجزائر

GMT 03:20 2015 الإثنين ,19 تشرين الأول / أكتوبر

سيدة الصين الأولى تلتقي زوجة رئيس الوزراء البريطاني

GMT 18:53 2016 الثلاثاء ,12 كانون الثاني / يناير

إيناس النجار تحتفل بخطبتها على رجل الأعمال محمد محفوظ

GMT 03:24 2015 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

الفطر القضيبي يطلق محتوى مثير يشبه الهرمونات بمجرد الشم

GMT 01:23 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

إذاعة "ميكس ميغابول" تتعرض للقرصنة من قبل "داعش"

GMT 02:21 2017 الخميس ,26 تشرين الأول / أكتوبر

عبير عبد الوهاب تُعلن سبب انضمامها إلى الإعلام

GMT 00:45 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

خبيرة التغذية تُعطي نصائح للوقاية من أمراض الشتاء مسبقًا
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya