فقدان اليقين في لحظات قاتمة

فقدان اليقين في لحظات قاتمة

المغرب اليوم -

فقدان اليقين في لحظات قاتمة

أمير طاهري
بقلم: أمير طاهري

بصرف النظر تماماً عن الخاتمة، ربما ينتهي الأمر بأزمة فيروس «كورونا» الراهنة إلى إحداث تأثير عميق على سلطات النخب السياسية، والاقتصادية، والإعلامية، والعلمية التي تشكل في مجموعها صورة الرأي العام على الصعيد العالمي. ولقد ارتبطت وظيفة هؤلاء النخب ورغبتهم في حيازة الشرعية الحصرية، بمقدرتهم الحقيقية على إيجاد اليقين، في تحدّ قائم لجميع أوجه وأنماط وأنواع المصائب والبلايا.
ومع ذلك، فإن الأزمة الراهنة، التي هبطت على رؤوسنا جميعاً كصاعقة الرعد المفاجئة من رحم العدم، قد أعادت التأكيد على تيمة الفناء والزوال، وربما على قيمة انعدام اليقين، في الشؤون الإنسانية. وقبل بضعة أسابيع قليلة فحسب، كانت الحكمة المقبولة تفيد باستمرار ارتفاع الأسهم في البورصات العالمية، في حين يدخل الرئيس دونالد ترمب إلى فترة الولاية الرئاسية الثانية، مع استقرار أوضاع الاتحاد الأوروبي في أعقاب الرحيل البريطاني عن فترة من النمو الاقتصادي الهزيل على مشارف الركود المحدق. وعلى الصعيد العالمي، روجت النخب العالمية ليقين انتعاش الأعمال، كما هو معتاد.
ورغم ذلك، ليس بأيدينا سوى حفنة من عدم اليقين الأكيد، وبدرجة لم يسبق لذاكرتنا أن شهدت مثيلتها من قبل. ولقد تأخرت أجندة الرحيل البريطاني عن الاتحاد الأوروبي بالفعل، هذا إن لم تخرج حقاً عن مسارها، حيث إن التأكيدات الصلبة الراسخة للسيد بوريس جونسون ليست أكثر إثارة للإعجاب راهناً مما كانت عليه من قبل. ومع الطائرات المدنية الفرنسية التي تنقل الرعايا البريطانيين إلى وطنهم من زوايا العالم الأربع، والطائرات المدنية البريطانية التي توفر الخدمة ذاتها للرعايا الأوروبيين من مختلف الجنسيات، فإننا نرى الاتحاد القديم، الذي طالته لعنات «البريكست» الخبيثة، لم يفارق الحياة، كما كان يأمل بوريس جونسون ورفاقه.
وفي المملكة المتحدة نفسها، اضطر السيد جونسون إلى تأجيل الانتخابات المحلية وانتخابات حكام المقاطعات لعام كامل، مما يضيف زخماً كثيراً إلى حالة عدم اليقين الراهنة.
كما تتباطأ العملية السياسية على نحو واضح في الولايات المتحدة، حيث اضطر كلا الحزبين الكبيرين إلى الإبطاء مرغمين من وتيرة الحملة الرئاسية الجارية. ومع فقدان الرئيس دونالد ترمب لمزاعمه بشأن النجاح المحقق، فإن مزاعم إعادة انتخابه لم تعد مؤكدة، كما يقول النقاد. كما أن هناك حالة من عدم اليقين تنتاب المعسكر الديمقراطي. فهل سوف يقع الأميركيون ضحية شعار «نهاية الرأسمالية»، وينطلقون صوب بيرني ساندرز وأميركا الاشتراكية؟ أم سوف يتخيرون الذهاب إلى أعتاب جوزيف بايدن السبعيني الذي يمثل العودة إلى خيارات المستقبل؟
وفي الصين، مسقط رأس الفيروس الفتاك، يتجلى عدم اليقين في تأجيل مؤتمر الحزب الشيوعي الذي كان من المقرر أن يسفر عن عملية تطهير واسعة النطاق، مع تعزيز موقف الرئيس الصيني لفترة حكم أخرى، تبلغ عشر سنوات على الأقل.
وفي فرنسا، استغل الرئيس إيمانويل ماكرون جائحة فيروس «كورونا» كذريعة للتخلي عملياً عن قرارات الإصلاحات الرئيسية، التي كان من المقرر أن تغير من وجه رئاسته للبلاد عن الشروط المتساهلة وغير الفعالة التي ميزت أسلافه من الرؤساء الثلاثة السابقين. كما أنه قرر إرجاء الجولة الثانية والحاسمة من انتخابات البلدية وانتخابات عمداء المقاطعات، التي كان من المنتظر أن تشهد اكتساح حزبه الحاكم، في تلك الانتخابات جميعها.
وفي اليابان، جرى إرجاء العمل بالتعديل الدستوري المثير للجدل، والمعني بالسماح للأمة بإعادة التسلح الكامل، إذا لزم الأمر، لخوض الحروب الخارجية. ويلقي عدم اليقين أيضاً بظلاله القاتمة على السحر الدستوري لإبقاء فلاديمير بوتين في السلطة، ما دام ظل حياً حتى الآن.
وفي إيطاليا وإسبانيا، الدولتين الأوروبيتين الأكثر تضرراً من الوباء الفتاك، تستغل حكومات الأقليات حالة عدم اليقين الراهنة، في إطالة فترة البقاء على رأس الحكم.
ومن شأن حالة عدم اليقين، التأثير الكبير على مجريات السياسة في الجمهورية الإسلامية في إيران كذلك، إذ ربما أبطأ المرشد الأعلى علي خامنئي من محاولاته تأمين السيطرة الحصرية على السلطة في البلاد، على أمل أن يتحمل الرئيس البائس حسن روحاني مسؤولية الكارثة التي كشف عنها الوباء الخبيث على الصعيد الوطني.
ومن الملاحظ أيضاً هدوء الصراع على السلطة في العراق، إذ خففت المخاوف في مواجهة الوباء من حماسة العديد من الشخصيات السياسية الطموحة، الأمر الذي يسمح بإطالة غير معلومة لحالة الوضع الراهن الشديدة الاهتزاز. كما أن هناك إطالة مشهودة للحالة المهتزة نفسها في أفغانستان، مع فقدان جولة الصراع على السلطة الباشتونية الطاجيكية في البلاد زخمها وأهميتها مع تراجع الاتفاق الغربي الذي أبرمته الولايات المتحدة مع حركة «طالبان» إلى خلفية الأحداث.
وفي لفتة إيجابية، ربما أسفر الوباء الجديد عن إبطاء الاندفاع الهندي الأعمى وراء إشعال الحرب الأهلية الحامية بين الهندوس والمسلمين، تلك التي تهدد بتمزيق أوصال الديمقراطية في البلاد.
كما أن حالة عدم اليقين الراهنة قد تمخضت عن تحول بعض القرارات التي لا يمكن تصورها أو التفكير فيها إلى أمر حتمي، وما في ذلك إلغاء دورة الألعاب الأوليمبية في طوكيو. كما أن هناك أحاديث عن تأجيل أو إعادة تحديد تاريخ كأس العالم لكرة القدم في قطر بحجة إلغاء و/ أو تأجيل أغلب البطولات، بما في ذلك كأس أوروبا، الأمر الذي أسفر عن إرهاق الجدول الزمني للفعاليات الرياضية العالمية بأكملها.
ومن الأمور الأخرى التي لا يمكن التفكير في حدوثها كان غياب الولايات المتحدة عن دورها القيادي في كبح وهزيمة الوباء الجديد. ولقد حاولت كل من الصين، وروسيا، وكوبا ملء جزء، ولو يسير، من الفراغ الناتج عن غياب الولايات المتحدة، على أمل تلميع صورتهم العالمية كأنظمة حكم استبدادية قاهرة.
ظلت النخب العالمية تسند توقعاتها دائماً على قانون السببية، مع ربط كل سبب بتأثيره، والتسلسل الزمني للسبب والنتيجة. ومنذ إيمانويل كانط وبيير سيمون لابلاس، افترض الباحثون والعلماء أنه إذا تسنى لأحدهم معرفة الموضع الدقيق لجسيم من الجسيمات في وقت معين، فيمكن له التنبؤ بموقعه وسرعته الدقيقة في أي وقت في المستقبل.
ومنذ منتصف عشرينات القرن الماضي، تعمَّد عدد من العلماء الأوروبيين (ومن بينهم بور، وبورن، وجوردان، وبولي، وديراك) تحدي هذا اليقين، وقالوا إن دراسة الظواهر لا بد أن تأخذ في اعتبارها إمكانية القفزات والانقطاعات.
وانتقل فيرنر هايزنبيرغ بتلك الأطروحة خطوة إلى الأمام بطرح مفهومه حول عدم اليقين، وكتب عن ذلك يقول: «يؤكد قانون السبب والنتيجة أنه إذا علمنا الحاضر تماماً، يمكننا حساب المستقبل. وليس الاستنتاج هو الموجب للخطأ، وإنما الفرضية نفسها».
وليس من المستغرب أن يصل فيرنر هايزنبيرغ إلى هذه الأطروحة أثناء أزمة عدم اليقين التي عصفت بألمانيا تحت حكم جمهورية فايمار، بينما كانت بقية ما يُسمى بالعالم المتحضر آنذاك يتعامل مع الانهيار الاقتصادي العالمي.
فهل من شأن النظام العالمي إعادة النظر في افتتانه، إن لم يكن هوسه الشديد، بالسرعة، ويحاول تقدير التباطؤ الفردي والجماعي المفروض عليه وجوباً بسبب الوباء الحالي؟ ولا يعد التساؤل قاسياً إذا ما اعتبرنا أننا دائماً ما نمزج بين السرعة والتسرع، مع طموحنا بعد الاستدامة، عندما يتحول واقعنا إلى حقيقة الزوال والفناء، ناهيكم بتقلقل ما قبل الانهيار.
إن عدم اليقين، والوثبات، والانقطاعات، هي من الكلمات الرئيسية الدالة في مفردات جديدة علينا النظر في أمرها، والتفكُّر في شأنها. فإنها تساعدنا على كبح صلفنا وغطرستنا، مع احتمالات التهدئة اليسيرة من حالات اليأس التي تعترينا في تلك اللحظات القاتمة الراهنة، فإن لم يحدث أفضل ما كنا نأمله منذ بضعة شهور مضت، فما من سبب يدعو لحدوث ما هو أسوأ مما نخشاه فعلاً الآن. إن روعة عدم اليقين تكمن في أنه يصلح لجميع الاتجاهات.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فقدان اليقين في لحظات قاتمة فقدان اليقين في لحظات قاتمة



GMT 07:06 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

الحانوتى!

GMT 07:05 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

صالح «كورونا» العام

GMT 07:03 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

رؤساء العالم معاً ضد كورونا

GMT 07:01 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

السلطويّة والفاشيّة على رأس الاحتمالات... للأسف!

GMT 07:00 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

حمدوك فى القاهرة!

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

مذيعة "سي إن إن برازيل" تتعرض لسطو مسلح على الهواء
المغرب اليوم - مذيعة

GMT 17:27 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

هيلاري سوانك تزور الأهرامات في مصر قبل ختام مهرجان القاهرة

GMT 19:51 2015 الخميس ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لكل ربة منزل لا تضعي هذه الأطعمة في الثلاجة

GMT 02:12 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

شقيق أسامة بن لادن يؤجر شققًا للطلبة في اسكتلندا

GMT 14:10 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

الداودي يعلن رسميًا عن تحديد سقف لأسعار المحروقات في المغرب

GMT 03:39 2018 السبت ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مواليد برج العقرب يمتلكون أسلوبًا تحليليًّا عميقًا

GMT 07:25 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

كاميرا للمراقبة تكشف اعتداء رجل على فتاة بالضرب في تكساس

GMT 06:10 2018 السبت ,13 تشرين الأول / أكتوبر

الأميرة يوجيني تُفاجئ الجميع بفستان "بيتر بيلوتو"

GMT 01:06 2018 الجمعة ,14 أيلول / سبتمبر

"Dhara Dhevi" منتجع الملوك والأمراء في تايلاند
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya