تونس عودة اضطرارية إلى المربع الأول

تونس: عودة اضطرارية إلى المربع الأول

المغرب اليوم -

تونس عودة اضطرارية إلى المربع الأول

محمد الأشهب

أن تفرض الهجمات الإرهابية على تونس إقرار حال طوارئ، فليس معنى ذلك أن الحكومة أذعنت لاتخاذ إجراءات لا تتماشى ومقتضيات التجربة الديموقراطية، وإنما تزايد الإحساس باستهداف استقرار البلاد ومسارها الناشئ حتّم الاتجاه نحو تطويق روافد الانفلات والتطرف والإرهاب. وليس هناك ما يؤاخذ بلداً نزع إلى اختيار هذا الأسلوب، في انتظار انقشاع الصورة.

الأميركيون بعد أيلول الأسود ضربوا في كل اتجاه، وأرسلوا القوات والبوارج الحربية للانتقام لكبرياء مرّغ في التراب. وليس في وسع التونسيين أن يحاربوا في غير مربع حدودهم التي لم تعد آمنة. فثمة فرضية لا تخلو من الوجاهة، مفادها أن تونس تدفع ثمن قدرتها على الانعتاق مما آلت إليه تجارب ما بعد إطاحة نظم مستبدة في ليبيا واليمن ومصر، من دون إغفال تداعيات أزمتي سورية والعراق، على رغم فارقهما في الظاهر.

بصيغة أخرى، فمصدر قوة التجربة التونسية الناشئة ليس الأبراج الاقتصادية والنفوذ العسكري والسياسي، بل الاستقرار الذي أضحى مهدداً، ما يجيز لها صونه بالوسائل المتاحة كافة، وأقربها ترسيخ الثقة في أن ما حدث في متحف «باردو» ونزل سياحي لا يجب أن يتكرر بأي شكل آخر. أكان ذلك على مستوى التصدي لانتشار التطرف والتحريض على العنف وممارسته من طرف تنظيمات من صنع محلي أو أخرى قادمة من الجوار المنفلت إلى حد كبير.

أرادت تونس أن تفرض إجراءات عادية في التعاطي وحماية أمنها الداخلي، بما في ذلك اعتقال أحد كوادر تنظيم ليبي مسلح، فتعرض مواطنوها للاختطاف وصاروا رهائن يحتاج خلاصهم إلى فدية. فكانت الرسالة أشد قسوة وضراوة. ثم رغبت في تحدي الصعوبات، من خلال إقرار نموذج سياسي في التعايش وتداول السلطة، فتسلط عليها الإرهاب، بهدف جذبها إلى مستنقع الفوضى والاضطرابات، كأنما تقتفي بصورة أو بأخرى علامات طريق تسلكها دول أخرى، مع أنها لم تحظر تنظيماً مشروعاً وأبقت على سطوة صناديق الاقتراع.

بل إنها استطاعت الإفادة مما حدث إلى جوارها في مصر وليبيا، ولم تمانع «النهضة» الإسلامية من الاندماج في مقتضيات ترتيبات مقنعة، كما ابتعدت موجة التدافع السياسي من منطق الأراضي المحروقة. وتجنبت بذلك استنساخ المآل الليبي، وإن كانت أكثر عرضة لشظاياه المتناثرة في أيما اتجاه.

بيد أن تدرج الأحداث، كما في لعبة الدومينو، جعل تونس وليبيا ومصر يعبرون المسار نفسه في سياق ما عرف برياح الانتفاضات العربية، ثم يلتقون عند المنعطف ذاته، عند إحصاء غنائم الربح وكلفة الخسارة، ما يطرح تساؤلات جوهرية عن الأسباب التي أدت إلى هذا الانحسار. فالإرهاب لم يسقط فجأة من السماء. كان موجوداً بنفس الشراسة الهوجاء واليقين الأعمى، إلا أن الغلو زاد في ضوء التطورات، كما لو أن المعركة ضد الاستبداد أصبح لها وجه آخر اسمه الإرهاب، ما يفسر كيف أن البلدان العربية التي لم تشملها عواصف الربيع، كان حظها أقل في الاكتواء بحرائق الظاهرة الإرهابية.

لكن تجريب وصفة حكم الإسلاميين بدت مختلفة بين بلد وآخر، وربما لو أن المصريين صبروا بعض الشيء على أخطاء «الإخوان المسلمين» لتمكنت صناديق الاقتراع من عزلهم من دون ضجة، ما دفع إسلاميي «النهضة» التونسية إلى إدراك القوانين الجديدة لما بعد فورة الانتفاضة، فيما لا يزال الليبيون موزعين بين ثنايا مسودات أخطرها مسودة المآزق الراهن. ذلك أن أنماط الحرية التي زُعم أنها تحققت على نقيض انهيار أنظمة الاستبداد كانت بلا أقدام تشدها إلى الأرض، على خلفية غياب الأمن الذي أصبحت استعادته مطلباً قومياً بامتياز. وماذا تنفع الحرية إذا كانت حياة الناس وأرزاقهم وممتلكاتهم مهددة في أي لحظة بفعل تغلغل «الإيديولوجية» الإرهابية؟

تعود تونس إلى المربع الأول اضطراراً. وهي إذ تجرب طبعة حال الطوارئ، إنما تحمل الهاجس الأمني إلى الصدارة. فالتغيير الذي لا يجلب الأمن والثقة في الإمكانات الواعدة لدولة المؤسسات يبقى مشوباً بالنواقص. وأي انتفاضة لا تتصدى إلى الاستبداد الجديد الذي يحاول فرض طقوسه ومخاوفه على الجميع، تكون أيضاً غير مكتملة الأركان. غير أن ثالوث الأمن لا يعتمد على ما تستطيعه القوة. وإنما يكمن في أبعاد روحية واجتماعية واقتصادية شاملة. ولم تخرج جموع المتظاهرين عارية الصدور في مواجهة الرصاص، من أجل أن تعود لتختفي من بطش الإرهاب. ولكن من أجل أن تسود قوة القانون في ارتباطه بالعدل والمساواة والكرامة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تونس عودة اضطرارية إلى المربع الأول تونس عودة اضطرارية إلى المربع الأول



GMT 14:23 2020 الأحد ,05 تموز / يوليو

بعض شعر العرب - ٢

GMT 08:03 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

وعادت الحياة «الجديدة»

GMT 07:58 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي

GMT 07:54 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

لى هامش رحلة د. أبوالغار

GMT 07:51 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

«28 مليون قطعة سلاح»

GMT 07:48 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

الفيس.. والكتاب!

GMT 10:48 2020 السبت ,27 حزيران / يونيو

الأطباء ورئيس الوزراء

GMT 10:46 2020 السبت ,27 حزيران / يونيو

وداعًا للشيشة!

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 05:17 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

نبات "الكافا" أفضل تكملة لتحسين الحالة النفسية

GMT 19:13 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

جون سينا يرتدي ملابس نيكي بيلا ويقلدها بشكل غريب للغاية

GMT 00:44 2017 الخميس ,27 إبريل / نيسان

منة شلبي تتحدث عن دورها في مسلسل "واحة الغروب"

GMT 17:20 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

"الكاف" يكشف موقفه من حركة عماد متعب المثيرة للجدل

GMT 02:37 2015 الأحد ,25 تشرين الأول / أكتوبر

الأحمر لمسة جديدة تقتحم موضة ملابس الرجال لموسم شتاء 2016

GMT 06:52 2017 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

أسعار العملات العربية والأجنبية بالدينار الجزائري الأربعاء

GMT 10:32 2015 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

عين الجمل وصفة سحرية للذكاء والجنس والحمية والسرطان

GMT 16:30 2016 الثلاثاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

رئيس منظمة الزوايا يُهوِّن من خطر الشيعة في الجزائر

GMT 03:20 2015 الإثنين ,19 تشرين الأول / أكتوبر

سيدة الصين الأولى تلتقي زوجة رئيس الوزراء البريطاني
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya